تدمير وتغييب الأصول التاريخية
المحرق - جعفر يتيم
تفتخر البشرية على أنها قامت باكتشاف بعض خفايا وأسرار الماضين من الأقوام والجماعات السابقة وذلك عن طريق التنقيبات والكشوفات الأثرية من فوق سطح الأرض وتحت أكوام التراب وفي المغاور والكهوف والوديان، وهناك العديد من الحضارات القديمة قد اكتشفت عن طريق هذا النحو في العالم القديم (الحضارة اليونانية والفارسية وبلاد الرافدين ودلمون وشبه الجزيرة العربية والحضارة الفرعونية) وغيرها من حضارات العالم القديم، ولولا وجود هذه الكشوفات والتنقيبات الأثرية لما عرف المنقبون والآثاريون وعلماء التاريخ فكر ولغة وعادات وتقاليد هذه الأقوام السالفة، كما أنه لولا الخيال العلمي والبحوث والدراسات التاريخية لم يعرف هؤلاء الفكر الذي قامت عليه هذه الحضارات من حيث وجودها وانتهاؤها وكذلك معرفة اتساعها واتصالها الحضاري بالشعوب الأخرى المجاورة، والأهم من ذلك كله أن العالم عرف هذه الآثار من معالم وأصول تاريخية وحفظها من التلف والتخريب والتعرض للسرقة والتدمير لتبقى عبرة وفكراً للإنسانية.
وعملية الاكتشاف الأثري للمعالم وآثار الماضّين لعله القانون الطبيعي لبني الإنسان إذ إن الباري عزو وجل سخر لبني آدم كل شيء ووهبه التبصَر والتفكر «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة الجاثية: 13).
ولكن الأمر غير الطبيعي والمخالف له أن يسعى الإنسان ضد أخيه الآخر في تدمير هذه الآثار والمعالم الحضارية التي تعتبر أسس وأصول تاريخية للشعوب كما حدثت أن دمرت بعض الآثار في أفغانستان وشبه الجزيرة العربية، بل إن شقاء الإنسان وصل إلى أكثر من ذلك في تدمير ما وهبه الله وأنعم عليه من نعم وخيرات لتغيِيبه البيئة البحرية والنباتية ومحو معالمها الجغرافية والتاريخية بدل أن يحافظ عليها ويسخّرها لمصالحه ومصالح بني جنسه يقوم بعملية التدمير للأصول والأسس التاريخية وهو عكس الاتجاه الأول وضد التيار المحافظ للتراث والتاريخ الوطني «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (سورة الروم:41). «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ» (سورة البقرة: 205) وهذا ما حصل بالفعل لمعظم سواحل أرخبيل البحرين، وسواحل سماهيج ما هي إلا عينة من هذه السواحل التي تعرضت للطمر والدفن والتغيّيب، وليس مبالغة إن قلنا إن هذه السواحل كانت نبض حياة ورفاهية والرئة التي يتنفس منها الأهالي في حياتهم اليومية.
إلا أنه وللأسف الشديد ضاعت أصول وأسس تاريخية وجغرافية عظيمة في مضمونها، كبيرة في شكلها وصورتها، رائعة في جمالها كان المواطن يعتز ويفخر بها وما أكثر هذه الأصول التي هي في تكوينها تعتبر معالم تراثية ورموز بحرية وساحلية وبيئية قد طمرت وغيّبت ومن أشهرها العيون، الكواكب، جزيرة جردي والباب العود وغيرها من معالم جغرافيه وتاريخية.
إن الشعوب التي ليس لها تاريخ ليس لها حضارة ولا أصول ولا جذور وبمعنى آخر إنها تفتقر إلى الأسس الحضارية فالتاريخ يعكس مختلف أوجه النشاطات (1) وعليه أن هذه المعالم والرموز البحرية والبيئية أنها كانت في يوم من الأيام تراث حضاري للشعوب القاطنة في إقليم البحرين والآن قد غابت الأسس والأصول عن هذه الأرض، إذ كانت مرآة تعكس الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية لأهالي المنطقة وبالخصوص قاطني سماهيج التاريخية جزيرة المحرق الحالية فيما يتعلق بهم البحث التاريخي، والوضع الآن لما آلت إليه الأمور لا يدعو إلى تبرير دفن السواحل بحجة التوسعة والاستثمار الاقتصادي! بل إن الأمور وصلت إلى أبشع من ذلك بكثير في طمر هذه المعالم والرموز البيئية.
والأمر المستغرب كما طرح في المقدمة أن يكون الشيء غير الطبيعي هو المألوف، والمنطقة في الأساس بوضعها الجغرافي تحتاج إلى دراسات تاريخية وجغرافية وإلى بحوث بيئية لأشهر معالمها ورموزها البحرية للتوصل إلى معلومات ذات قيمة عن هذه الأرض، وما هو معلوم تاريخياً أن هذه المنطقة للشمال الشرقي من أرخبيل البحرين توجد لها إشارات تاريخية في المصادر والكتب التاريخية في وصف بساتينها الخضراء وعذوبة مياه عيونها ونضارة سواحلها وكذلك الحديث عن تجارة اللؤلؤ واتصال الشعوب ببعضها البعض.
إن لبعض معالمها الساحلية تبهر الناظر بالروعة والجمال بصياغتها وهندستها لذلك يحتاج المرء إلى وقفة تأمل وتفسير، وكما هي عادت المنقبين والآثاريين في الكشف عن أسرار ما يجدونه تحت أكوام التراب وما يكتشفونه على الأرض من أسس تاريخية كالمدن والحصون يتوصلون إلى العديد من التفسيرات التاريخية (2)، ولعل الباب العود من أشهر المعالم الساحلية الذي يعتبر معجزة تراثية يستحق أن تكتب فيه عشرات البحوث كما هي منطقة رأس الحد (البلدة المأهولة) جزر أمواج الحالية لما لهذا المعلم من فلسفة وحكمة في فنه وجمال روعته الجغرافية قد تستنتج من روايات البحارة وكبار السن، إلا أنه وللأسف الشديد لآثار الدفن والطمر قد أخذ مأخذه وغيّبه للأبد ولم يستفد من وجوده ولا من تكوينه ولا من عطائه التاريخي ذات الصلة بالاتصال الإقليمي بين شعوب المنطقة.
ولعل الذي يعنينا في هذه السلسلة التراثية أن ندون ونوثق كلما رأيناه وروته لنا المصادر الشفوية والكتابية، كما أن الحس الأخلاقي والوطني وحبنا للأرض يدعونا لذلك وكما قيل لولا التاريخ والتدوين لضاعت معالم حضارية كثيرة من العالم القديم والحديث على السواء (3).
المصادر والمراجع :
1- مناهج الفكر والبحث التاريخي والعلوم المساعدة (ص 22) - الدكتور حسن حلاق.
2- انظرالعرب في العصور القديمة (ص 121-157)، وكذلك اليونان - مقدمة في التاريخ الحضاري (ص 47-59) للدكتور لطفي عبدالوهاب يحيى.
3- مناهج الفكر والبحث التاريخي والعلوم المساعدة (ص 40) - الدكتور حسن حلاق.
نشرت في صحيفة الوسط البحرينية- ملحق فضاءات
http://www.alwasatnews.com/2988/news/read/509473/1.html
نشرت في صحيفة الوسط البحرينية- ملحق فضاءات
http://www.alwasatnews.com/2988/news/read/509473/1.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق