(العيون والينابيع)
بقلم-جعفريتيم
تُشكِل كثرة المياه وغزارتها ظاهرة طبيعية في الساحل الشمال الشرقي لجزيرة المحرق(سماهيج التاريخية) فهذه الظاهرة تكون واضحة كثيراً في مجمل أرخبيل البحرين إلا أن موقع الساحل المذكور بتنوع مصادره المائية يفوقها كثرة وغزارة , فهناك على سطح الجزيرة الكثير من العيون والآبار الارتوازية وفي المقابل تجد العديد من العيون والجواجب في قاع البحربالقرب من الساحل الا انه وللأسف الشديد مع عمليات الردم والدفان الحاصل للبيئة البحرية قد طمرت معظم هذه العيون والجواجب إذاماقلنا بالكامل .
وفي هذه الظاهرة لاغرابة في ذلك إن تعجب من رؤيتها بعض الرحالة والمستكشفون الأجانب وكتبوا ودونوا عنها الكثيرونقلوا مشاهداتهم الى بلدانهم ,فهذه العيون من فوق سطح الجزيرة ومن تحت قاع البحر كانت لها ارتباط وثيق بحياة القاطنين بالمنطقة منذ قديم الزمان فالقارئ في نصوص الأساطير والملاحم لحضارات بلاد النهرين يلمس بوضوح كيف كان ارتباط وقدسية المياه العذبة بالآلهة وكيف كانت للعيون والمياه الجوفية مكانه خاصة(1).
ومع صغر مساحة أرخبيل البحرين الا ان هذه العيون والكواكب أخذت شهره واسعة لدى الرحالة العرب والكتاب الأجانب في تأليفهم وبحوثهم العلمية والتاريخية,وربما يكون هذا الوصف أفضل وصف وصفت به هذه الظاهرة الطبيعية لأرخبييل البحرين لصاحب كتاب التحفة النبهانية (جزيرة البحرين كثيرة المياه العذبة .ولكثرة ينابيعها البحرية وعيونها البرية كانت في غاية الخصوبة سوى فلاحتها غير متقنة ويوجد في وسط البحر جملة ينابيع عذبة تفور بقوة .فيغوص عليها المستقون فيملؤون منها القرب للسفن ولشرب غالب أهل البلدة وإن من الواقعة على ساحل البحرلمايتدفق ماؤها ويسيل على وجه الأرض .ومنها ماإذا جزر البحر ظهرت فاستقوامنها.وإذامد البحرعلاها.بنحوستة أذرع فيغوصون عليها للإستقاء.) (2)
وأمام ظاهرة الماء الوفيروالغزير ظاهرة طبيعية غريبة أخرى تتمثل بتفجّر المياه العذبة وتدفقها من تحت قاع البحروهي بلاشك آية من آيات الله الكبرى(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (3) والماء العذب لايختلط بالماء المالح وهي الينابيع البحرية التي تطلق عليها اصطلاحاً (الجواجب) بقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا)(4).
وتُعرف سواحل أرخبيل البحرين عن غيرها من سواحل الخليج بكثرة الينابيع البحرية (وعدد الينابيع البحرية المشهورة عندهم بأسماء مخصوصة نحو(25) ينبوعاً غير الصغار والمجهولة الاسم ويبعد بعضها عن البر بنحو (25) ميلاً فأبعد ويعلوها البحر بنحو خمسة أبواع فأكثر . وعدد التي في البحر نحو (200) عين وذلك غير الصغار ) (5)
أولاً:العيون والآبارالارتوازية :
إن لوجود البساتين ومافيها من أشجار النخيل والفواكهة والخضار بهذه الكثافة والشهرة باعث رئيسي , لعله يكون الماء المصدر الطبيعي الذي يغذيها وهذا العنصر الطبيعي ليس بوجوده فحسب بل بكثرة تدفقه وعذوبته ,وربما يكون هو القاعدة الأساس للمعالم في منطقة الشمال الشرقي للجزيرة فعلى مدى تاريخ المنطقة كان ساكنيها يعتمدون على المياه الجوفيه وهي كثيرة إذا ما قورنت بغيرها من مناطق البحرين بل إن مياه المنطقة تمتاز بغزارتها وتدفقها وصفائها كما يذكر المرحوم التاجر في كتابه عقد اللآل ويوصف مياه سماهيج وتوابعها بعدت أوصاف (مياه جارية, المياه الصافية الدافقة ,ومياه غزيرة ,) (6) ويذكر الكاتب الإنجليزي لومير في كتابه دليل الخليج عن النافورات وخزانات المياه في بستان ريا (يوجد بالحديقة نافورات وخزانات للمياه يمتلكها شيخ البحرين ) (ومياه الشرب من آبار مجاورة عمقها قامتان والمياه مالحة قليلاً) (7).ويعد انتشار العيون الطبيعية في الساحل الشمال الشرقي وسماهيج خاصة سمة بارزة تتسم بها المنطقة حيث كان فيها أكثر من خمسون عيناً (8) وهناك من العيون مايسيل مائها في جداول الى البحر كعين بستان نصر المشهورة بالتينة في شمال شرق سماهيج ويأتي البحارة من خلال قواربهم ويملئون القرب بالماء ومعظم هذه العيون قد طمرت أو اندثرت ومابقيت منها الا عدد بسيط , ومن أسماء العيون المشهورة ريا , نصر, العودة , شاهين وغيرها من العيون المعروفة .
(العين العودة) :
تعتبر من أهم العيون الطبيعية الساحلية للساحل الشمال الشرقي وأشهرها , تقع العين على منحدر في أرض خصبة بالطرف الشمالي للساحل بالحي الشرقي لسماهيج بمحاذات مسجد الشيخ محمد الشمالي كما يسمى المسجد باسمها وذلك لشهرتها, وتعتبر العين العودة المتنفس والرئة التي يتنفس منها أهالي المنطقة وذلك بالإعتماد على مصدر مياهها العذبه في الإستخدامات المنزلية والغسل والتحلية ,ولكبار وشباب القرية أجمل الذكريات مع العين العودة في الاستجمام والسباحة واللعب بالقرب منها , حيث تعتبر المنطقة المجاورة للعين بمثابة متنَزه للأهالي لماتحويه منطقة العين من سحر وجمال الطبيعة الخلابة , تعرضت العين كما تعرض غيرها من العيون والكواكب الى الإندثار لوقت قريب بسبب الإهمال وعدم الإهتمام وقد غيبت وطمرت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي ولم يزل موقعها معروف بين المسجد والمزرعة .
ثانياً:العيون البحرية (الجواجب).
تُزّين الساحل الشمال الشرقي نافورات طبيعية تخرج من قاع البحر والتي يطلق عليها الأهالي اصطلاحاً (جواجب) وهي عبارة عن مياه عذبة متدفقة من باطن الأرض تخرج من بين الصخور ويزداد الناظر انبهاراً لتدفقها ولعذوبة وصفاء مائها وهي كما يصفها لومير (الينابيع البحرية هي من المعالم الملحوظة بالجزيرة ) (9) أي جزيرة المحرق وتنتشر بالقرب من الساحل مجموعة من الينابيع البحرية التي كانت في السابق المورد الأساسي للشرب مع العيون الداخلية وكان الأهالي يرتادون اليها في حالة الجزر ليأخذوا المزيد من الماء وهي كما يوثقها كتاب سماهيج في التاريخ أكثر من 16 ينبوعاً ومن أشهرها الهيور والعبيد والفوارة والمجتل وغيرها (10) وهناك بالشرق من الساحل بمحاذات قصار جردي ثلاثة ينابيع وهي معروفة لدى الأهالي وليس كما ذكرها لومير ينبوعان فقط ( بجانبه ينبوعان عذبان في البحر يعلو سطح الجزيرة قدمين عن سطح البحر ) (11) وفي شمال قرية الدير المجاورة لسماهيج وبالتحديد بالقرب من جزيرة خصيفة ثلاثة ينابيع عذبة بالإضافة الى وجود ينابيع أخرى تبعد عن الساحل عدة أميال كعين أبوجلب في الشمال وموقعها حالياً بالقرب من جزر أمواج وفي الشرق بمنطقة لخة المحارعين يطلق عليها(الرضمة) وهي في حالة الجزر يكون ارتفاع الماء أقل من باعين ويرى من خلالها فورة الماء العذب يظهر بقوة وبتعبيرأحد الرواة نسمع خرير الماء، وقد اعتاد الغاصة في المرور إليها في وقت الغوص وأخذ الماء بالقُرب .
الظاهرة الغريبة:
لاتقتصرظاهرة وجود العيون البحرية (الكواكب) بالقرب من السواحل بل إنهى تمتد ذلك في عمق البحر الى عدة أميال من الشواطئ في الخليج وكما هي بالقرب من سواحل مدن البحرالمتوسط ( لبنان وسوريا) ولاشك ولاريب فإن هذه الظاهرة آية من آيات الله العظمى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ) تجد الجمال والعظمة ذلك بوضوح في قاع البحروسط الماء المالح الذي ينبهر منه الإنسان وهذه الظاهرة الغريبة والعجيبة مثال تدلّل عليها بعض الآيات القرآنية .
(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا )(12)
(أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ )(13)
(وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(14)
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) (15) (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ) (16)
1-كوكب(العود):
يقع في الجهة الشرقية لسماهيج ويطلق عليه الأهالي كوكب العود أي الكبيرممايوضح على انه أكبر الكواكب بالمنطقة , ويعتبر الكوكب الرئيسي في سماهيج وهو مخصص للنساء كما يروي بعض المعمرين والبحارة, ومن الصباح الباكر إذاكانت المايه جزراً (ثبر) تأتي النسوة لتملئ القرب بالماء,ويستخدم مائه لغسل الملابس وتنظيف الاواني المنزليه , أما إذاكانت المايه سقي (مد) فإن النساء يذهبن الى العيون القريبه منه أو الى جدول الماء (الساب) الواقع في الجهة الغربية من القرية ,وفي الآونه الاخيره بعد توفر الماء الى المنازل أستخدمت الجواجب للإستحمام .
2-كوكب العبيد:
وموقعه بالشرق من الساحل على مسافة قريبه من كوكب العود في الجنوب , يعرف (بكوكب العبيد) لكثرت مايتررد عليه(عبيد) خدم الطبقة البرجوازية والأرستقراطية وبعض تجارالؤلؤ من قبيل عوائل بن صقر وشاهين والمؤيد وغيرهم من العوائل التي كانت تترد على منطقة سماهيج في نهاية القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين ,وبحسب بعض كبار السن والبحارة في شهاداتهم يوضحون أنه لم تعرف لهذا الجوجب المذكور تسميه أخرى .
ذكريات الكواكب:
مع أخذ الماء للشرب والإستخدامات المنزلية وغسل الأواني والملابس كانت للاهالي ارتباطات أخرى مع هذه الينابيع البحرية خصوصاً الصبية والشباب ومع ذكريات لاتنسى مع هذه العيون الطبيعية للإستحمام واللعب والكشتات الجماعية وأخذ الصورالجماعية حيث كان الأولاد خصوصاً أيام العطل الأسبوعية والسنوية في موسم الصيف يذهبون اليها للتنزه والاستجمام ولهذا كان ارتباط الناس بهذه المصادر الجوفية ارتباط اجتماعي معيشي من جهة ونفسي وترفيهي من جهة أخرى الا انه في ثمانينيات القرن الماضي دفنت هذه الينابيع مع الساحل ولم يبقى منها شيئ يذكر .
____________
1-تاريخ البحرين في العصور القديمة ص (41,162) د.بتركورنوول ترجمة د.محمد الخزاعي .
2-التحفة النبهانية – ص (21)
3-سورة فصلت آية رقم ( 53)
4- سورة الفرقان آية رقم (53)
5-التحفة النبهانية- ص (22)
6- عقد اللآل في تاريخ أوال /الشيخ محمد علي التاجر– ص(44)
7- دليل الخليج الجزء الرابع الجغرافي -ص (1608)
8- سماهيج في التاريخ – ص (104)
9- دليل الخليج /الجزء الرابع الجغرافي ص(1604-1605)
10- سماهيج في التاريخ – ص(107)
11- دليل الخليج الجزء الرابع الجغرافي ص (1605)
12- سورة الفرقان آية رقم (53)
13- سورة النمل في الآية رقم (61)
14- سورة فاطر الآية رقم (12)
15-سورة الرحمن آية رقم (19)
16-سورة الرحمن آية رقم (20)
20-10-2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق