الصراع السياسي الفارسي البيزنطي
سماهيج - جعفر يتيم
كان للصراع الحاد بين القوى العظمى آنذاك الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية أثر كبير على مواقف القبائل العربية في القرون الأولى الميلادية خصوصا بعد سقوط الأسرة الفرثية في فارس وقيام الدولة الساسانية 226 م فنجد هنا الولاء والتبعية موزع بين الدويلات العربية للقوى الكبرى ، فإمارة الغساسنة وموقعها غربا على الحدود الشرقية للشام وولائها للإمبراطورية البيزنطية، وإمارة اللخميين (المناذرة) وموقعها في الشرق على التخوم الغربية لنهر الفرات وولائهم وتبعيتهم للإمبراطورية الفارسية وهو ما يسمى بالإمارات الحدية التي كانت كلا من الإمارتين العربيتين تقوم بحماية حدود الإمبراطورية التي تدين لها بالتبعية والولاء من خلال التوسع ومد النفوذ، وكانت هاتين القبيلتين في صراع مستمر وفي بعض الأحيان يكون الصراع دفاعا عن مصالح القوى الكبرى في المنطقة، واستثمرت الدولتين العظيمتين في ذلك الوقت الخلافات الاقتصادية والسياسية والدينية التي نشبت بين هاتين الإمارتين العربيتين في مد النفوذ والتوسع.
والسؤال هنا هل لتبعية الإمارتين للدول العظمى في ذلك الوقت تأثير ودور كبير في انتشار المذاهب المسيحية الشرقية؟ وهل كان لهذه المذاهب نصيب منها في أرخبيل البحرين (أوال - سماهيج)؟
يمكن الاستنتاج من خلال ما ورد من أخبار عن مواقف وسلوك أمراء هاتين الدولتين وأتباع المذاهب المسيحية من المبشرين، فالإمارة الغسانية كانت تدين بالمسيحية على مذهب اليعاقبة وتدين بالولاء والتبعية الى الإمبراطورية البيزنطية ،والمناذرة اللخمين كانوا يتبعون الإمبراطورية الفارسية التي لاتزال على الوثنية، وفي الحيرة التابعة للفرس يكثر أتباع المذهب النسطوري المنبوذين من قبل العاصمة القسطنطينية والكنيسة البيزنطية معا بعد أن أبعدوا عنها وتكاثروا في شرق العراق بالحيرة وهنا تعليق للدكتور جواد علي «وأنا حين أقول إن النسطورية كانت قد وجدت لها سبيلا إلى أهل الحيرة، فدخلت بينهم، فأنا لا أقصد بقولي هذا إن أهل الحيرة كانوا جميعا على هذا المذهب، أو إنهم كانوا كلهم نصارى. فقد كان جُلّ أهل الحيرة على دين أكثر ملوكهم، أي على الوثنية، أما الذين اعتنقوا النصرانية، فهم العباديون، وبينهم قوم كانوا على مذهب القائلين بالطبيعة الواحدة، أي مذهب اليعاقبة، وبينهم من كان على مذهب آخر».
ومن خلال العداء ومجابهة التوسع البيزنطي سلكت الإمبراطورية الفارسية (الساسانية) سياسة الاحتضان لهذه الإمارة فكانت في أتم الاستعداد لحماية ومساعدة هؤلاء النساطرة في منحهم حرية العقيدة ومنحهم حرية التبشير بين أتباعهم والاستفادة من علومهم خصوصا من الناشطين المبشرين في مدينة الحيرة النسطورية التي من خلال رموزها نشروا تعاليم المذهب النسطوري والعقيدة النسطورية إلى الجزيرة العربية وإقليم البحرين وجزرها بما فيها جزيرة سماهيج، رغم ما كانت تدين به الإمبراطورية من ديانة وثنية إلى أنهم استثمروا هذا الخلاف الديني بين المسيحيّين وأوعزوا للنساطرة حرية التبشير ضد المذهب الرسمي للعاصمة القسطنطينية لمد نفوذهم وتحكمهم في المنطقة.
ولم يقتصر الصراع السياسي بين الإمبراطوريتين على الجانب الشرقي لشبه جزيرة العرب وجزرها بل امتد إلى جنوبها لمحاولة استقطاب القبائل والإمارات العربية بجانبهما ونرى ذلك في حادثة الأخدود في العام 523م في الصراع الذي نشب بين المسيحية واليهودية في نجران حينما أرسل النصارى يستنجدون بالإمبراطور البيزنطي جستن الأول ومنها اقتناص القسطنطينية فرصة أن تكون لها موطأ قدم في المنطقة عن طريق نجاشي الحبشة وهو أقرب ملك مسيحي لها، وما تلى ذلك من أحداث في استعمار حبشي مسيحي للمنطقة جعل الحاكم الحميري اليهودي الاستنجاد بأمير الحيرة في الحصول على المساعدة من الإمبراطورية الفارسية وهو ما حصل بالفعل بامتداد نفوذ الإمبراطورية الفارسية إلى جنوب الجزيرة العربية في العام 628م.
نصرانية قبيلة (عبدالقيس)
قبيلة عبدالقيس هي إحدى القبائل العربية الأصيلة التي كانت تسكن إقليم البحرين وجزرها، وكانت تهامة موطنها الأصلي بعد نزوحها منها واختيارها العيش بالقرب من سواحل البحرين إثر صراعها مع القبائل المجاورة لها، وبعد انتشار الدين المسيحي في الشرق تغلغلت الديانة بين أهلها بل إن النصرانية كانت غالبة عليها بفضل نصرانية سيدها وهو الجارود بن عمرو بن حنش المعلى وبعد ذلك وفد على الرسول (ص) وأسلم وهو ما يدل على أن المسيحية كانت ديانة القبيلة، والصلة بين سماهيج وقبيلة عبدالقيس على ما يبدو من النصوص الواردة في المصادرة اللغوية أوضحت أن سماهيج لعبدالقيس كما أشار إليها البكري في «معجم ما استعجم» وكذلك ياقوت الحموي في «معجم البلدان» وهو ما يعني أن عبدالقيس كانوا من القبائل التي سكنت سماهيج في بدايات القرون الأولى الميلادية.
دخول المذهب النسطوري لجزيرة سماهيج
في القرون الأولى الميلادية كانت أراضي البحرين وجزرها تابعة للفرس ويدين أهلها بالمجوسية واليهودية مع ملاحظة أن النصوص التاريخية الفارسية تشير إلى جزر البحرين بكلمة (مشماهيج) ولازالت هذه التسمية ترد في بعض الكتابات الحديثة للكتاب الإيرانيين، وبعد الدعم المتواصل للإمبراطورية الفارسية لأتباع المذهب النسطوري في العراق كان للتبشير دوره في الجزيرة العربية من قبل هؤلاء كما نقل جواد علي «وقد تسربت النسطورية إلى العربية الشرقية من العراق وإيران، فدخلت إلى «قطر» وإلى جزر البحرين وعمان واليمامة ومواضع أخرى» وهو ما يعني وصولها إلى جزيرة سماهيج (المحرق الحالية) وهنا بعض أسماء الأساقفة المبشرين الذين كانوا على أسقفية هجر ودارين ومسماهيج «وورد في أسماء من حضر المجامع النسطورية اسم أسقف يدعى «إسحاق» اشترك في مجمع النساطرة الذي عقد سنة 576م، كما ذكر اسم أسقف آخر يدعى «قوسي» اشترك في مجمع سنة 676 م. وقد كانا أسقفين على «هجر». كذلك وردت أسماء أساقفة من النساطرة تولوا رعاية شؤون أبناء طائفتهم في جزيرة «دارين» وفي جزيرة «سماهيج» وفي مواضع أخرى من الخليح، تولى بعضهم أعماله قبيل الإسلام وعند ظهوره، وتولى بعضهم رعاية شؤون أتباعه في أوائل عهد الإسلام» أما الأب لويس شيخو ينقل في كتابه النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية بعد ذكره لأسقفية هجر ودارين أن سماهيج كانت فيها كنيسة مسيحية وفي المجامع النسطورية أسماء ثلاثة أساقفة تولوا تدبيرها وهم باطاي وإلياس (410) وسركيس (576).
ما هي الأسقفية؟
بعد الاعتراف بالمسيحية أصبح من السهولة بمكان ترتيب البيت المسيحي في المناطق التي تدين بالمسيحية بعد ما كانوا يتجمعون في السر والخفاء، والأسقفية هي جزء من التنظيم الديني المسيحي وهو ما يعرف بالتنظيم الكنسي لدى رجال الدين المسيحين ومنذ انتشار العقيدة النصرانية كان رجال الدين المسيح يقسمون المناطق تحت مسمى (أسقفيات) يرأسها (أسقف) وهو الذي يقوم بالإشراف الديني والإداري على الجهاز الكنسي بأسقفيته، ولكل أسقفية كنيسة تتبعها أبرشيات يتولى إدارتها القساوسة وهذه الأبرشيات تمسك بدور العبادة في الأديرة والصوامع، ومجموع أسقفيات المنطقة تتحد وتتألف منها كنيسة يرأسها (المطران) وفوق المطران يأتي منصب البطريك وهو كرسي البطريريكية وكان التنظيم الكنسي في القرون الأولى الميلادية يختص بثلاثة مراكز لكرسي البطريريكية وهي روما، أنطاكية، الإسكندرية وبعد ذلك بيت المقدس والقسطنطينية، ويتضح من خلال النصوص السريانية أن أسقفية مسمهيج أومسماهيج كانت إحدى الأسقفيات في إقليم البحرين التي كانت تتبع البطريريكية النسطورية وتعرف بكنيسة أو مدن أو بلاد «قطرايا» بالإضافة الى الأسقفيات الأخرى (تالون،دارين،خط،هجر) وهذه الأسقفيات تمثل عدد من الكراسي في الكنيسة النسطورية.
سماهيج أقدم أسقفية
اتبع المبشرون النساطرة في إقليم البحرين نظم إدارية ودينية متبعة في العرف الكنسي فقد أقاموا في قطر مطرنة أسموها بالأرامية (بيت قطرايا) وهو كرسي للمطران ( «مطرابوليطي»، يقيم فيه، ويشرف على إدارة خمسة أساقفة، يقيمون في «ديرين» و«مشمهيغ» أي «سماهيج» وهجر وبلاد «مازون» و «حطا» المسماة «ييد أردشير»، وهي الخط). ولها سياسات وصلاحيات واسعة في عدد من الأسقفيات المجاورة التي يرأسها رئيس أساقفة فارس ويذكر نص في آخر مجمع نسطوري عقد سنة 676م أن بلاد البحرين كانت حافلة بالكنائس والأديرة ودعاة الدين، إلا أن الحال لم يتم على حاله بسبب الأزمات التي حدثت في فارس وانعكست على بيت قطرايا وامتدت في ذلك إلى وجود الخلافات بين أصحابها، وتشير إحدى النصوص الأجنبية لتاريخ النساطرة في جزيرة سماهيج إلى أن أول أسقفية وجدت في بيت قطرايا منصوصا عليها هي (أسقفية سماهيج)، ويظهر أنها أقدم أسقفية، وقد تولى تدبير شئونها الأسقف باطاي، وقد عزله المجمع الكنسي الذي عقد سنة 410م وعين مكانه الأسقف إيليا، ومن أساقفتها أيضاَ سركيس 576م، وفي سنة (649-659م) كان الأسقف إبراهام أحد رؤساء المتمردين في بيت قطرايا ضد أشويا الثالث الذي كان يحكم سماهيج غير أنه كان منذ زمن قريب من أسمى الأساقفة، ولم يحضر المجمع النسطوري الذي دعا إلى عقده جرجيس الأول في دارين العام 676م. وينقل الأب شيخو أن هؤلاء النصارى ثبتوا على دينهم بعد الإسلام كما يظهر من آخر مجمع نسطوري عقد سنة 57هـ -676م دبّر فيه الآباء عدة أمور دينية.
نشرت في صحيفة الوسط
العدد : 2736 الخميس 04 مارس 2010م الموافق 18 ربيع الاول 1431هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق